كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثانية: لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه، حَرُم عليه التزوّج بغيرهن والاستبدال بهنّ، مكافأة لهن على فعلهن.
والدليل على ذلك قوله تعالى: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ} الآية.
وهل كان يحلّ له أن يطلق واحدة منهن بعد ذلك؟ فقيل: لا يحل له ذلك جزاءً لهن على اختيارهن له.
وقيل: كان يَحِلّ له ذلك كغيره من الناس ولكن لا يتزوّج بدلها.
ثم نسخ هذا التحريم فأباح له أن يتزوّج بمن شاء عليهن من النساء، والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} والإحلال يقتضي تقدّم حَظْر.
وزوجاته اللاتي في حياته لم يكنّ محرمات عليه، وإنما كان حرم عليه التزويج بالأجنبيات فانصرف الإحلال إليهن، ولأنه قال في سياق الآية: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ} الآية.
ومعلوم أنه لم يكن تحته أحد من بنات عمه ولا من بنات عماته ولا من بنات خاله ولا من بنات خالاته، فثبت أنه أحلّ له التزويج بهذا ابتداء.
وهذه الآية وإن كانت مقدمة في التلاوة فهي متأخرة النزول على الآية المنسوخة بها، كآيتي الوفاة في البقرة.
وقد اختلف الناس في تأويل قوله تعالى: {إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} فقيل: المراد بها أن الله تعالى أحلّ له أن يتزوّج كل امرأة يؤتيها مهرها، قاله ابن زيد والضحاك.
فعلى هذا تكون الآية مبيحة جميع النساء حاشا ذوات المحارم.
وقيل: المراد أحلَلْنا لك أزواجك، أي الكائنات عندك، لأنهن قد اخترنك على الدنيا والآخرة، قاله الجمهور من العلماء.
وهو الظاهر، لأن قوله: {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} ماضٍ، ولا يكون الفعل الماضي بمعنى الاستقبال إلا بشروط.
ويجيء الأمر على هذا التأويل ضيّقًا على النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ويؤيد هذا التأويل ما قاله ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج في أيّ الناس شاء، وكان يشقّ ذلك على نسائه، فلما نزلت هذه الآية وحرم عليه بها النساء إلا مَن سُمِّيَ، سُرّ نساؤه بذلك.
قلت: والقول الأوّل أصح لما ذكرناه.
ويدلّ أيضًا على صحته ما خرّجه الترمذيّ عن عطاء قال: قالت عائشة رضي الله عنها: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ الله تعالى له النساء.
قال: هذا حديث حسن صحيح.
الثالثة: قوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} أحلّ الله تعالى السراري لنبيّه صلى الله عليه وسلم ولأمّته مطلقًا، وأحل الأزواج لنبيّه عليه الصلاة والسلام مطلقًا، وأحلّه للخلق بعدَدٍ.
وقوله: {مِمَّآ أَفَاءَ الله عَلَيْكَ} أي ردّه عليك من الكفار.
والغنيمة قد تسمى فيئًا؛ أي مما أفاء الله عليك من النساء بالمأخوذ على وجه القهر والغلبة.
الرابعة: قوله تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ} أي أحللنا لك ذلك زائدًا من الأزواج اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك، على قول الجمهور؛ لأنه لو أراد أحللنا لك كل امرأة تزوجتَ وآتيت أجرها، لما قال بعد ذلك: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ} لأن ذلك داخل فيما تقدّم.
قلت: وهذا لا يلزم، وإنما خصّ هؤلاء بالذكر تشريفًا؛ كما قال تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68].
والله أعلم.
الخامسة: قوله تعالى: {اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ} فيه قولان: الأوّل: لا يحلّ لك من قرابتك كبنات عمك العباس وغيره من أولاد عبد المطلب، وبنات أولاد بنات عبد المطلب، وبنات الخال من ولد بنات عبد مناف بن زُهْرة إلا من أسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجِر من هجر ما نهى الله تعالى عنه» الثاني: لا يحلّ لك منهن إلا من هاجر إلى المدينة؛ لقوله تعالى: {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ} [الأنفال: 72] ومن لم يهاجر لم يَكْمُل، ومَن لم يكمل لم يصلح للنبيّ صلى الله عليه وسلم الذي كَمُل وشَرُف وعَظُم، صلى الله عليه وسلم.
السادسة: قوله تعالى: {مَعَكَ} المَعِيّة هنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها؛ فمن هاجر حلّ له، كان في صحبته إذ هاجر أو لم يكن.
يقال: دخل فلان معي وخرج معي؛ أي كان عمله كعملي وإن لم يقترن فيه عَمَلُكما.
ولو قلت: خرجنا معًا لاقتضى ذلك المعنيين جميعًا: الاشتراك في الفعل، والاقتران فيه.
السابعة: ذكر الله تبارك وتعالى العمّ فَرْدًا والعمّات جمعًا.
وكذلك قال: {خَالِكَ} {وَخَالاَتِكَ} والحكمة في ذلك: أن العمّ والخال في الإطلاق اسم جنس كالشاعر والراجز؛ وليس كذلك العمة والخالة.
وهذا عُرْف لغويّ، فجاء الكلام عليه بغاية البيان لرفع الإشكال، وهذا دقيق فتأملوه؛ قاله ابن العربي.
الثامنة: قوله تعالى: {وامرأة مُّؤْمِنَةً} عطف على {أَحْلَلْنَا}.
المعنى وأحللنا لك امرأة تَهَب نفسها من غير صداق.
وقد اختلف في هذا المعنى؛ فروي عن ابن عباس أنه قال؛ لم تكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو مِلك يمين.
فأما الهبة فلم يكن عنده منهن أحد.
وقال قوم: كانت عنده موهوبة.
قلت: والذي في الصحيحين يقوّي هذا القول ويَعْضُدُه؛ روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنت أغار على اللاتي وَهَبْنَ أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أما تستحيي امرأة تَهَب نفسها لرجل! حتى أنزل الله تعالى: {تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وتئوي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ} فقلت: والله ما أرى رَبَّكَ إلا يسارع في هواك.
وروى البخاريّ عن عائشة أنها قالت: كانت خَوْلة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فدلّ هذا على أنهن كنّ غير واحدة.
والله تعالى أعلم.
الزَّمَخْشَرِيّ: وقيل الموهبات أربع: ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية، وأم شريك بنت جابر، وخَوْلة بنت حكيم.
قلت: وفي بعض هذا اختلاف.
قال قتادة: هي ميمونة بنت الحارث.
وقال الشعبيّ: هي زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار.
وقال عليّ بن الحسين والضحاك ومقاتل: هي أم شريك بنت جابر الأسدية.
وقال عروة ابن الزبير: أم حكيم بنت الأوقص السلمية.
التاسعة: وقد اختلف في اسم الواهبة نفسها؛ فقيل هي أم شريك الأنصارية، اسمها غُزِيّة.
وقيل غُزَيلة.
وقيل ليلى بنت حكيم.
وقيل: هي ميمونة بنت الحارث حين خطبها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاءها الخاطب وهي على بعيرها فقالت: البعير وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هي أم شريك العامرية، وكانت عند أبي العكر الأزدي.
وقيل: عند الطُّفيل بن الحارث فولدت له شريكًا.
وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوّجها؛ ولم يثبت ذلك.
والله تعالى أعلم؛ ذكره أبو عمر بن عبد البر.
وقال الشعبيّ وعروة: هي زينب بنت خزيمة أم المساكين.
والله تعالى أعلم.
العاشرة: قرأ جمهور الناس {إِنْ وَهَبَتْ} بكسر الألف، وهذا يقتضي استئناف الأمر؛ أي إن وقع فهو حلال له.
وقد روي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا: لم يكن عند النبيّ صلى الله عليه وسلم امرأة موهوبة؛ وقد دللنا على خلافه.
وروى الأئمة من طريق سهل وغيره في الصحاح: أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت أهب لك نفسي، فسكت حتى قام رجل فقال: زوجْنيها إن لم يكن لك بها حاجة.
فلو كانت هذه الهبة غير جائزة لما سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يقرّ على الباطل إذا سمعه؛ غير أنه يحتمل أن يكون سكوته منتظرًا بيانًا؛ فنزلت الآية بالتحليل والتخيير، فاختار تركها وزوّجها من غيره.
ويحتمل أن يكون سكت ناظرًا في ذلك حتى قام الرجل لها طالبًا.
وقرأ الحسن البصريّ وأُبَيّ بن كعب والشعبيّ {أنْ} بفتح الألف.
وقرأ الأعمش {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً وَهَبَتْ}.
قال النحاس: وكسر {إنْ} أجمع للمعاني؛ لأنه قيل إنهن نساء.
وإذا فتح كان المعنى على واحدة بعينها؛ لأن الفتح على البدل من امرأة، أو بمعنى لأن.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {مُّؤْمِنَةً} يدلّ على أن الكافرة لا تحلّ له.
قال إمام الحرمين: وقد اختلف في تحريم الحرّة الكافرة عليه.
قال ابن العربيّ: والصحيح عندي تحريمها عليه.
وبهذا يتميز علينا؛ فإنه ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحظه فيه أكثر، وما كان من جانب النقائص فجانبه عنها أطهر؛ فجوّز لنا نكاح الحرائر الكتابيات، وقصر هو صلى الله عليه وسلم لجلالته على المؤمنات.
وإذا كان لا يحلّ له من لم تهاجر لنقصان فضل الهجرة فأحْرَى ألاّ تحل له الكافرة الكتابية لنقصان الكفر.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا} دليل على أن النكاح عقد معاوضة على صفات مخصوصة، قد تقدمت في النساء وغيرها.
وقال الزجاج: معنى: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيّ} حلّت.
وقرأ الحسن: {أن وهبت} بفتح الهمزة.
و{أن} في موضع نصب.
قال الزجاج: أي لأن.
وقال غيره: {أن وهبت} بدل اشتمال من {امرأة}.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا} أي إذا وهبت المرأة نفسها وقبلها النبيّ صلى الله عليه وسلم حلت له، وإن لم يقبلها لم يلزم ذلك.
كما إذا وهبت لرجل شيئًا فلا يجب عليه القبول؛ بَيْد أن من مكارم أخلاق نبيّنا أن يقبل من الواهب هبته.
ويرى الأكارم أن ردّها هُجْنة في العادة، ووصمة على الواهب وأَذِيّة لقلبه؛ فبيّن الله ذلك في حق رسوله صلى الله عليه وسلم وجعله قرآنا يتلى؛ ليرفع عنه الحرج، ويبطل بُطْل الناس في عادتهم وقولهم.
الرابعة عشرة: قوله تعالى: {خَالِصَةً لَّكَ} أي هبة النساء أنفسهن خالصة ومزية لا تجوز؛ فلا يجوز أن تَهَب المرأة نفسها لرجل.
ووجه الخاصيّة أنها لو طلبت فرض المهر قبل الدخول لم يكن لها ذلك.
فأما فيما بيننا فللمفوّضة طلب المهر قبل الدخول، ومهر المثل بعد الدخول.
الخامسة عشرة: أجمع العلماء على أن هبة المرأة نفسها غير جائز، وأن هذا اللفظ من الهبة لا يتم عليه نكاح؛ إلا ما روي عن أبي حنيفة وصاحبيه فإنهم قالوا: إذا وهبت فأشهد هو على نفسه بمهر فذلك جائز.
قال ابن عطية: فليس في قولهم إلا تجويز العبارة ولفظة الهبة، وإلا فالأفعال التي اشترطوها هي أفعال النكاح بعينه، وقد تقدمت هذه المسألة في القصص مستوفاة. والحمد لله.
السادسة عشرة: خصّ الله تعالى رسوله في أحكام الشريعة بمعان لم يشاركه فيها أحد في باب الفرض والتحريم والتحليل مزيّةً على الأمة وهبت له، ومرتبة خصّ بها؛ ففرِضت عليه أشياء ما فرضت على غيره، وحَرُمت عليه أفعال لم تحرم عليهم، وحللت له أشياء لم تحلل لهم؛ منها متفَق عليه ومختلف فيه.
فأما ما فُرض عليه فتسعة: الأوّل: التهجد بالليل؛ يقال: إن قيام الليل كان واجِبًا عليه إلى أن مات؛ لقوله تعالى: {يا أيها المزمل قُمِ الليل} [المزمل: 1 2] الآية.
والمنصوص أنه كان واجبًا عليه ثم نسخ بقوله تعالى: {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} [الإسراء: 79] وسيأتي.
الثاني: الضُّحَا.
الثالث: الأَضْحى.
الرابع: الوتر؛ وهو يدخل في قسم التهجُّد.
الخامس: السواك.
السادس: قضاء دين من مات معسِرا.
السابع: مشاورة ذوي الأحلام في غير الشرائع.
الثامن: تخيير النساء.
التاسع: إذا عمل عملًا أثبته.
زاد غيره: وكان يجب عليه إذا رأى منكرًا أنكره وأظهره، لأن إقراره لغيره على ذلك يدلّ على جوازه، ذكره صاحب البيان.
وأما ما حرم عليه فجملته عشرة: الأوّل: تحريم الزكاة عليه وعلى آله.
الثاني: صدقة التطوّع عليه، وفي آله تفصيل باختلاف.
الثالث: خائنة الأعين، وهو أن يظهر خلاف ما يضمر، أو ينخدع عما يجب.
وقد ذمّ بعضَ الكفار عند إذنه ثم ألان له القول عند دخوله.
الرابع: حَرّم الله عليه إذا لبس لأْمته أن يخلعها عنه أو يحكم الله بينه وبين محاربه.
الخامس: الأكل متّكئًا.
السادس: أكل الأطعمة الكريهة الرائحة.